الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، قَالُوا: الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ مِنْ صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ، وَالَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ} [6: 68]، نَزَلَتْ هَذِهِ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ إِذْ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْكُفْرِ وَذَمِّ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَجْلِسُونَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ لِضَعْفِهِمْ وَقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأُمِرُوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ الْجُلُوسِ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، ثُمَّ إِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ فَعْلَيْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَجْلِسُونَ مَعَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ لَهُمْ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ ذَلِكَ وَمَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا كَانَ يُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَمَعْنَى سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، سَمِعْتُمُ الْكَلَامَ الَّذِي مَوْضُوعُهُ جَعْلُ الْآيَاتِ فِي مَوْضِعِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيرُ وَالتَّنْفِيرُ، بِمُجَرَّدِ السَّفَهِ وَقَوْلِ الزُّورِ.وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مُحْدَثٍ فِي الدِّينِ وَكُلُّ مُبْتَدَعٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ لَفْظِهَا دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ دَلِيلٌ عَلَى اجْتِنَابِ كُلِّ مَوْقِفٍ يَخُوضُ فِيهِ أَهْلُهُ بِمَا يُفِيدُ التَّنَقُّصَ وَالِاسْتِهْزَاءَ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ أُسَرَاءِ التَّقْلِيدِ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا آرَاءَ الرِّجَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ سِوَى قَالَ إِمَامُ مَذْهَبِنَا: كَذَا وَقَالَ فَلَانٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ بِكَذَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ أَوْ بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ سَخِرُوا مِنْهُ وَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَى مَا قَالَهُ رَأْسًا أَوْ يُلْقُوا لَهُ بَالًا وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ، وَخَطْبٍ شَنِيعٍ، وَخَالَفَ مَذْهَبَ إِمَامِهِ الَّذِي نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مُعَلِّمِ الشَّرَائِعِ، بَالَغُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى جَعَلُوا رَأْيَهُ الْفَائِلَ، وَاجْتِهَادَهُ الَّذِي هُوَ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ مَائِلٌ مُقَدَّمًا عَلَى اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا صَنَعَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ بِأَهْلِهَا وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ انْتَسَبَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ إِلَيْهِمْ بَرَاءٌ مِنْ فِعْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، كَمَا أَوْضَحَ الشَّوْكَانِيُّ ذَلِكَ فِي الْقَوْلِ الْمُفِيدِ وأَدَبِ الطَّلَبِ اهـ، وَيَا لَيْتَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا كَلَامَ شُيُوخِهِمْ أَصْلًا لِلدِّينِ، وَالْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَرْعَيْنِ أَوْ مُهْمَلَيْنِ، يَتَّبِعُونَ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَدْيَهُمْ، وَلَا يَتَّبِعُونَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُ كُلُّ أَهْلِ عَصْرٍ شُيُوخَهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ.{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ إِنَّكُمْ إِنْ قَعَدْتُمْ مَعَهُمْ تُكُونُونَ مِثْلَهُمْ وَشُرَكَاءَ لَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ؛ لِأَنَّكُمْ أَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَرَضِيتُمُوهُ لَهُمْ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ بِالشَّيْءِ وَإِقْرَارُ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ إِقْرَارَ الْكُفْرِ بِالِاخْتِيَارِ كُفْرٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِقْرَارَ الْمُنْكَرِ وَالسُّكُوتَ عَلَيْهِ مُنْكَرٌ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَأَنَّ إِنْكَارَ الشَّيْءِ يَمْنَعُ فُشُوَّهُ بَيْنَ مَنْ يُنْكِرُونَهُ حَتْمًا، فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ، وَيَتَأَمَّلُوا كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُلْحِدِينَ فِي الْبِلَادِ الْمُتَفَرْنِجَةِ يَخُوضُونَ فِي آيَاتٍ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِالدِّينِ، وَيُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْكُتُ لَهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ كُفْرِهِمْ لِضَعْفِ الْإِيمَانِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى.{إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} هَذَا وَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ الْمُسْتَهْزِئَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِمُقَرِّبِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بِأَنَّهُمْ سَيَجْتَمِعُونَ فِي الْعِقَابِ كَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِثْمِ وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أَيِ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْ كَسْرٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَهَذَا وَصْفٌ لِلْمُنَافِقِينَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} هَذَا تَفْضِيلٌ لِلتَّرَبُّصِ أَيْ: فَإِنْ نَصَرَكُمُ اللهُ أَوْ فَتَحَ عَلَيْكُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَكُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْكُمْ يَسْتَحِقُّونَ مُشَارَكَتَكُمْ فِي نِعْمَتِكُمْ {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ مِنَ الظَّفَرِ- لِأَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ- مَتُّوا إِلَيْهِمْ وَمَنُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَخْذِيلِهِمْ، وَالتَّوَانِي فِي الْحَرْبِ مَعَهُمْ، وَالِاسْتِحْوَاذُ يُفَسِّرُونَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْحَوْذِ وَهُوَ السُّوقُ، سُمِّيَ حَوْذًا لِأَنَّ الْحَوْذِيَّ السَّائِقُ يَضْرِبُ حَاذِيَيِ الْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْحَاذِيَانِ هُمَا جَانِبَا الْفَخْذَيْنِ مِنَ الْوَرَاءِ، وَالْحَاذِ الظَّهْرُ وَيُطْلَقُ عَلَى جَانِبَيْهِ حَاذِيَيْنِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ السُّوقِ يَسْتَوْلِي بِهِ الْحَوْذِيُّ عَلَى مَا يَسُوقُهُ، فَصَارُوا يُطْلِقُونَ الِاسْتِحْوَاذَ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ تَسْخِيرِهِ أَوِ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَهُمْ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ إِنَّنَا قَدِ اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْكُمْ، وَتَمَكَّنَّا مِنَ الْإِيقَاعِ بِكُمْ، وَلَمْ نَفْعَلْ بَلْ مَنَعْنَاكُمْ أَيْ جَمَعْنَاكُمْ وَحَفِظْنَاكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالنُّكْتَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ ظَفَرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَتْحِ وَأَنَّهُ مِنَ اللهِ، وَعَنْ ظَفَرِ الْكَافِرِينَ بِالنَّصِيبِ هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي الْقِتَالِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُ لَهُمُ الْفَتْحُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، وَلَكِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ قَدْ يَقَعُ فِي أَثْنَائِهَا نَصِيبٌ مِنَ الظُّفَرِ لِلْكَافِرِينَ لَا يَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَكُونَ فَتْحًا يَسْتَوْلُونَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [30: 47]، الْمُقَيَّدُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [47: 7، 8]، وَإِنَّمَا نَصْرُ اللهِ أَنْ يَقْصِدَ بِالْحَرْبِ حِمَايَةَ الْحَقِّ وَتَأْيِيدَهُ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَآيَتُهُ مُرَاعَاةُ سُنَنِ اللهِ فِي أَخْذِ أُهْبَتِهِ، وَإِعْدَادِ عُدَّتِهِ، الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا كِتَابُهُ الْعَزِيزُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [8: 60]، وَقَوْلِهِ: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [8: 45]، وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ كَوْنَ الْإِيمَانِ نَفْسِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِعْدَادَ وَأَخْذَ الْحَذَرِ، وَإِنَّمَا غُلِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ وَفَتَحَ الْكُفَّارُ بِلَادَهُمُ الَّتِي فَتَحُوهَا هُمْ مِنْ قَبْلُ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا عَادُوا يُقَاتِلُونَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا عَادُوا يَعُدُّونَ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّةٍ كَمَا أَمَرَهُمُ الْقُرْآنُ، فَهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُنْشِئُوا الْبَوَارِجَ الْمُدَرَّعَةَ، وَالْمَدَافِعَ الْمُدَمِّرَةَ وَيَتَعَلَّمُوا مَا يَلْزَمُ لَهَا وَلِلْحَرْبِ مِنَ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْمِيكَانِيكِيَّةِ، وَهِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ تَرَكُوا كُلَّ ذَلِكَ بَلْ صَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ فِيهِمْ يُحَرِّمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.{فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَهُنَالِكَ لَا تَرُوجُ دَعْوَاهُمُ الَّتِي يَدَّعُونَهَا عِنْدَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ أَنَّهُمْ مِنْكُمْ {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} سَبِيلًا، أَيْ: إِنَّ الْكَافِرِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ سَبِيلٌ مَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَيَتَّبِعُونَ هَدْيَهُ، وَكَلِمَةُ سَبِيلٍ هُنَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ خَصَّهَا بِالْحُجَّةِ، وَسَبَبُ هَذَا التَّخْصِيصِ عَدَمُ فَهْمِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ النَّصْرِ مَضْمُونًا بِوَعْدِ اللهِ وَسُنَّتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِشَرْطِهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْآخِرَةِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ عَامٌّ فَلَا سَبِيلَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَمَا غَلَبَ الْكَافِرُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُرُوبِ وَالسِّيَاسَةِ وَأَسْبَابِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ صَارُوا أَعْلَمَ بِسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَمَ عَمَلًا بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ تَرَكُوا ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ، فَلْيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الْمُعْتَبِرُونَ. اهـ.
وعَبَّر ابنُ عَطِيَّة بعبارة الكوفيين، فقال: بفتحِ العَيْن على الصَّرْف ويعنون بالصَّرْف: عدمَ تَشْريكِ الفِعْلِ مع ما قَبْلَه في الإعْرَاب.وقرأ أبيّ: {ومنعناكم} فعلًا ماضيًا، وهي ظاهرةٌ أيضًا؛ لأنه حُمِلَ على المَعْنَى، فإنَّ معنى {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ}: إنَّا قد اسْتَحْوَذْنا، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نَفْي قَرَّره، ومثلُه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا} [الشرح: 1، 2] لَمَّا كان {أَلم نَشْرَحْ} في معنى: قد شَرحْنَا عُطِفَ عليه ووضَعْنا.ونَسْتَحْوِذُ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياسًا، وفَصُحَ استعمالًا؛ لأنَّه مِنْ حقِّه نَقْلُ حركةِ حَرْفِ علَّتِه إلى السَّاكِن قبلها، وقَلْبها ألفًا؛ كاسْتَقَام واسْتَبَان وبابه، وقد قدمت تَحْقِيق هذا في قوله تعالى في الفاتحة: {نَسْتَعين}، وقد شذَّت معه ألفاظٌ أخَرُ، نحو: أغْيَمَتْ وأغيلت المرأة وأخيَلت السَّماء قصرها النَّحْوِيُّون على السَّماع، وقاسها أبُو زَيْد.قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} قيل: هنا مَعْطوفٌ مَحْذُوف، أي: وبينهم؛ كقوله: [الطويل] أي: وبيني، والظَّاهرُ أنه لا يحتاج لذلك؛ لأن الخِطَاب في {بَيْنَكُم} شاملٌ للجَميع، والمرادُ: المُخَاطَبُون والغَائِبُون، وإنما غَلَّبَ الخطاب؛ لما عَرَفْتَ من لُغَة العرب.فالمعنى: أنَّ الله يَحْكُم بين المُؤمنين والمُنَافقين يوم القيامةِ، ولم يَضِع السَّيْف في الدُّنْيَا عن المُنَافِقِين، بَلْ أخّر عِقَابِهِم إلى يَوْم القِيَامَةِ.قوله: {على المُؤمنين} يَجُوز أن يتعلَّق بالجَعْلِ، ويجُوز أن يتعلَّق بِمَحذُوفٍ؛ لأنه في الأصْل صِفَة لسَبِيلًا، فلما قُدِّم عليه، انْتَصَبَ حالًا عَنْهُ. اهـ. بتصرف يسير.
|